أنعم الله
على خلقه بنعم كثيرة لا يحصيها الخلق عددا, كما أخبرنا الله في محكم كتـابه: (
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) وخص الله البشـرية بنعمة تميزهم عن بقية
الخلائق , خصهم بنعمة عظيمة, إنها نعمة العقل , ولقد امتدح ربنا عباده الصالحين في
مواضع كثيرة من كتابه بأنهم يعقلون ويتفكرون ويتدبرون كقوله تعـالى ( إن في ذلك
لآيات لقوم يعقلون ) وكقوله ( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يعقلون) وبالضد
من ذلك ذم الله أولئك المهملين لعقولهم
الذين لا يتفكرون ولا يتدبرون كما في قوله تعالى ( صم بكم عمي فهم لا
يعقلون ) وكقوله (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ) .
*وعقول
البشر دليل إلى فهم النصـوص الشرعية, ولذا دعا الإسلام إلى إعمال الذهن وتشغيل
الطاقة العقلية وهذا جلي في آيات عديدة تدعوا إلى ذلك وتؤيده (أفلا يتدبرون
القران) , (أولم يتفكروا في أنفسهم) , (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف
خلقت) (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) وبهذا
نعلم أن العقل في الإسلام له وضع يليق به, لا يرتفع ليكون إلهاً يتبع, ولا يمتهن
ليكون صاحبه كسائر الحيوانات, وحفاظاً على هذا العقل من الشذوذ والسطحية والسذاجة
أمر الشارع بتعليمه فكما أن نمو الجسم بالطعام فان نمو العقل بالعلم, ومعلوم أن
هذا العقل مخلوق من مخلوقات الله شأنه كشأنها له قدراته المحدودة وخصائصه الـثابتة
فكما أنه لا يطلب من العين أن تبصر ما يبعد عنها آلاف الأميال, وكما أنه لا يطلب
من اليدين أن تحمل الجبال, كذلك فان العقل يطيق أشياء ولا يستطيع أشياء وهذا الأمر
وإن كان مسلمة من المسلمات ,إلا أن نبتة إبليسية نبتت منذ فجر الإسلام جعلت للعقل
مكانة مقدسة, فأشاعوا وأذاعوا أن العقل هو المشرع وأنه هو الحاكم على النصوص
الشرعية قبولاً ورداً, وعلى هذا فإذا جاءهم الشرع بما لم يفهمه العقل ُردوا الآيات
القرآنية والأحاديث النبوية وإن تعارض العقل القاصر مع نص ظاهر أُولوا النص أو حرفوه
أو أُبطلوه بالكلية والعياذ بالله .
هؤلاء
العقلانيون تبدأ قصتهم بإبليس, فهو أميرهم وزعيم فكرهم, يقول الله تعالى (وإذ
قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)
نعم أبى أن يسجد لآدم وهو مخلوق من طين (قال أنا خير منه خلقني من نار وخلقته
من طين) هكذا بلغ به تقديسه لرأيه أن رد أمر الله وامتنع أن يستجيب لخالقه
العليم (ألا لعنة الله على الكافرين) .
قال ابن
القيم رحمه الله :" إن هذه المعارضة بين العقل والنقل –أي النصوص الشرعية
– هذه المعارضة هي أصل كل فساد في العالم وهي ضد دعوة الرسل من كل وجه فان الرسل
دعوا إلى تقديم الوحي على الإرادة والعقول, أما خصومهم فصاروا إلى ضد ذلك وسار
أتباع الرسل على تقديم الوحي على الرأي والمعقول وسار أتباع إبليس على تقديم العقل
على النقل الشرعي .
وجاء هؤلاء
الأتباع ينادون بتقديس العقول وتحكيمها وقبول تشريعها, و نادوا إلى ذلك بألوان
وأثواب مزخرفة وألفاظ منمقة فاغتر بهم كثير من المسلمين ورحبوا بهم وعظموا أمرهم و أطلقوا على قاد اتهم ألقاب التبجيل
فذاك زعيم وذاك مفكر كبير وهذا فيلسوف مجدد .
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صـولة الأسد
وجاءت
الحضارة العلمية المعاصرة, جاءت بعد ما فتح الله على البشر مجالات رحبة في علوم
الفضاء والذرة, ويسر الله بفضله لعقول البشرية اكتشاف كثير من أسرار الكون التي
كانت عنهم غائبة مجهولة وبعد هذا وذاك أحست هذه العقول بالغرور, وظن أصحابها أنهم
بها في غنية عما جاء به الأنبياء من الشرائع
السماوية فجعلوها من وراء ظهورهم وسنوا لأنفسهم قوانين وأنظمة وضعية فأحلوا ما
يشتـهون وحرموا ما منه يشمئزون وحاربوا الدين واتهموه بأنه يُحجر على العقول
المقدسة (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا
يهدي القوم الظالمين) .
*ولأن من
بنى قومنا من يتأثر بكل جديد,ولأن من بني جلدتنا من يرتع بالإعجاب بكل غريب, ركب
أناس هذا المركب فسلوا أقلامهم يخطون بها الدعوة إلى تقديم عقولهم وزبالات أذهانهم
على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ثم كانت الخطوة التالية اعتلاء المنابر
الثقافية لتطبيق ذلك على كثير من الأوامر الشرعة (يريدون ليطفئوا نور الله
بأفواههم والله متم نوره ولوكره الكافرون) .
لقد أصبحوا
بعقولهم ينتقصون نصوصاً نبوية قطعية ,
فكان من بعدهم طائفة من عامة المسلمين وعوامهم من يتجرأ على رد التشريعات الربانية
حتى صار بعضهم ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض, فكم سمعنا
من أُمّي لا يفقه علما , يرد قاعدة دينـية
وكم سمعنا من نصف متعلم يعلو بصوته رداً لعقائد سلفية .
*أن هذه
الدعوة خدعة شيطانية, لو تأملها العقلاء حقا لعلموا أن من المحال أن نتحاكم إلى
العقول, فإلى أي عقل نتحاكم ؟ إن لكل إنسان عقل يفتخر به ويزكيه فمن يحكم مـن ؟
ومن هو المصيب ومن هو المخطئ ؟؟ ومن ذلك يا إخوه ما نراه من تخبط في واقع البشر
فهؤلاء يزعمون أن العقل يحبذ شيئا ويوجبه وأولئك يزعمون أن العقل يحيله ويمنعه فأي
الفريقين محق وأيهما مبطل ؟؟ وبهذا نعلم
أن العقول البشرية يجب أن توزن بميزان الشرع فنرفض ما تحمله هذه العقول من أراء
وتصـورات فنجعلها تحت مجهر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية, فنتعرف عندئذ على
الخطـــأ والصواب, وهذا المعنى هو الذي أمر الله به في كتابه قال سبحانه وتعالى (
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله ) وقال تعالى ( وما اختلفتم فيه
من شيء فحكمه إلى الله ) ثم إن الأحكام الشرعية والتشريعات الغيبية أمور لا
تطيقها العقول البشرية, ولذلك كان من حكمة الله ورحمته أن جعل علمها إليه إلا ما
شاء الله كما قال تعالى ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) وكمثل
قوله (يسألونك عن الروح قل الروح من
أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )
والواجب على المؤمنين أن يؤمنوا بما جاء به الله ورسوله دون تردد أو ارتياب .(
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما
قضيت ويسلموا تسليما )
ولقد كان
السلف يستشعرون ذلك ويطبقونه في تلقيهم لشريعة ربهم, ومن رأوا منه خلاف ذلك نبذوه
ونفروا منه, فان تمادى عزروه وهجروه وقاطعوه,والأمثلة في ذلك كثيرة .
منها : ما
جاء عن عمر رضي الله عنه انه بلغه أن رجلاً يفتش في المتشابهات من الآيات القرآنية
ويدخل عقله في معانيها تعدياً فما كان من الفاروق إلا أن جاء به فضربه ضربا شديدا
ونادى بالمسلمين أن يهجروه ويقاطعوه . وهذا عبد الله بن مغفل رضي الله عنه يذكر
حديثا فيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن رمي الحصاة الصغيرة فقال رجل :وما بأس
هذا؟ فقال عبد الله مغضباً : إني أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول هذا
والله لا أكلمك أبدا . وهذا عمران بن حصين يـروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال:" الحياء كله خير" فقال رجل إن فيه ضعفاً وإن منه لعجزاً
فقال عمران له مغضباً : أحدثك عن رسول الله وتجيء بالمعارضة ؟ لا أحدثك بحديث ما
عرفتك . هكذا يؤمنون بالكتاب والسنة ويقفون عند حدود الله ورسوله لا يتعدون عليها
بعقولهم القاصرة ولا بآرائهم الخاسرة فأولئك حقاً هم المفلحون وغيرهم هم الأخسـرون
وإن حسبوا أنهم يُحسنون صنعا .
*الشُبهات
أمرها عظيمٌ وخطرها جسيم, ولذلك ذكر أهل العلم أن الشيطان يسعد بالشبهة في قلب
العبد ويفرح بها, مالا يفرح بمعصيته ووقوعه في شهوة عارضة, فالشهوة دقائق معدودة
فإذا انقطعت رجع العبد وأناب أما الشبهة
والبدعة فإنها تلتصق بالقلب أياما وسنين وقد لا يجد العبد من يرفعها عن قلبه
ويزيلها ولذلك حذر العـلماء من تلقي الشبهات ونفروا من مجالسة أهل الشبه والبدع
وزجروا عن قراءة كتاباتهم وأوصوا بإحراق
كتبهم كل ذلك حفاظا على قلب المؤمن نقياً تقياً مطمئناً.
إن كثيرا
من الناس يظن أن القنوات الفضائية الوافدة قد أغرقت شبابنا وفتياتنا بشهوات فحسب
ولكن هؤلاء نسوا أن هذه الوسـائل لم تقف
عند هذا الحد بل تعدته إلى بث الشبهات في عقول الأسر المسلمة, فكان عاقبة ذلك
التشكيكُ في كل شيء حتى تزعزع الإيمان في قلوب الكثيرين من المتابعين لها, ويدور حديث الناس في الآونة الأخيرة عن ندوات تعرض في وسائل الإعلام
هذه تطرح للنقاش أموراً لا يجوز فيها النقاش أصلا ويرغبون الناس بمشاهدتها
ومتابعتها تحت مسـميـات مزخرفة "الرأي ..والرأي الآخر " " أكثر
من رأي " ويجعلون للمشاهدين فرصة للتكلم والسؤال من خلال الاتصال الهاتفي
وقد حدث من رأى ذلك وسمع به أنهم يجـعلون الأحكام الشرعية تحت مجهر عقولهم البشرية
ففي إحدى القنوات جلست امرأة متبرجة أمام رجل ذي سمت ديني وجعلوا الحجاب الإسلامي
موضوع النقاش ثم توصلوا إلى أنه عادة من العادات, وفي قناة أخرى جلس رجل مع
امرأتين إحداهن مفكرة علمانية والأخرى صاحبة دراسات إسلامية وكان النقـاش حول
موضوع تعدد الزوجات, ومنعه وفي إحدى البرامج الإذاعية كانت الندوة عن الربا وتوصل
الزعيم الأكبر فيها إلى أن الفوائد الربوية ضرورة عصرية تؤيدها المقاصد الشرعية,
وتتجلى لنا الخطورة في هذه البرامج إذا علمنا أن الذين يستمعون إليها ويشاهدونها
ليسوا من طلبة العلم الشرعي أو ممن تعرف على دينه حق المعرفة, بل يستمع إلى هؤلاء
أفواج من عامة المسلمين من الأميين وأنصاف المثقفين فإذا استمع هؤلاء البسطاء لذلك
الذي يدعو إلى تحكيم العقــول في كل شيء أعجبهم كلامه وتأثروا بأقواله بعدها يجلس
هؤلاء يرددون الشبهات هنا وهناك ويفسدون في الأرض وهم لا يشـعرون (وإذا قيل لهم
لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) إن هذه البرامج دعوة مغلفة
لتقديـس العقول وشحذ لها للتدخل في ما لا تحسنه إنها جرٌّ للعقول إلى الغرور
وعندها لن تستجيب لأوامر الله والرسول ولو قيل لها ما قيل, إنها دعوة لإغراق الناس
في مناظراتِ وجدالِ فاسد, لا يقوم على الحق ولا يراد بها الوصول إليه.
*إن الأصل
في ديننا إتباع ما جاء في الكتاب والسنة فإذا جاء أمر الله ورسوله قال المسلم
سمعنا واطعنا فان بين الله ورسوله الحكمة من هذه العبادة أو تلك فهذا فضل من الله
ونعمة وعلى هذا إذا سمعنا شيئـاً من أمور الدين وعقلناه وفهمناه فلله الحمد على
ذلك ومنه التوفيق ومالم نُطِـق إدراكه وفهمه أمنا به وصدقناه واعتقدنا أن هذا من
عظيم ربوبيته سبحانه وتعالى واكتفينا في ذلك انه من علم الله ومشيئته (إنما كان
قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا واطعنا
وألئك هم المفلحون ) انظروا إلى عمر
رضي الله عنه وهو يقبل الحجر الأسود يقول : اني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع
ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسـلم يقبلك ما قبلتك " وانظروا إلى
عائشة رضي الله عنها حينما سألتها معاذة : ما بـال الحائض تقضي الصوم ولاتقضي
الصلاة ؟ فقالت عائشة مغضبة :أحرورية أنت ؟؟تقول هل أنت من فرق الخوارج الذين
يحكمون عقولهم في الشرع فقالت المرأة :لست بحرورية ولكني أسال : فقالت عائشة رضي
الله عنها : كان يصيبنا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم
ولا نؤمر بقضاء الصلاة .
إذاً
استجيبي لأمر الله وافعلي ما تؤمرين ( ما كان لمؤمن ولا لمؤمنة إذا قضى الله
ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )
وجاء عن
الشافعي انه جاءه رجل فسأله عن مسالة فقال الشافعي له : قضى بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم بكذا وكذا : فقال ذلك الرجل : ما تقول أنت ؟ فقال الشافعي : سبحان الله أتراني في كنيسة ؟
تراني في بيعة ؟ تراني على وسطي زنار ؟ أقول لك قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتقول : ما تقول أنت ؟؟
هكذا يستجيبون لأوامر الله ورسوله ويطمئنون بها دون جدال ومكابرة والمتأمل لكتاب الله
يجد الذم لأهل الجدال بغير حق كما تلحظ ذلك في قوله تعالى : (
كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب * الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان آتاهم ..
كُبر مقتاً عند الله وعند الذين أمنوا .. كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ) فمن
عارض الوحي بآراء الرجال كان قوله مشتقاً من أقوال هؤلاء الضُلال , قال مالك رحمه
الله : أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم لجدله " إذاً تعمى بصائرنا وتختلط علينا الأمور ونزيغ بعد إذ هدانا
الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق