قلوب
ارتجفت ففرت إلى الله العزيز الحكيم, وقلوب اضطربت فلجأت إلى الشيطان الرجيم, فأما
المؤمنون فتعلقت قلوبهم بالله في السراء والضراء, وفي الشدة والرخاء ( وما لنا
ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل
المؤمنون ) , إنهم يتوكلون عليه سبحانه فهو القادر على كل شيْ, القاهر فوق
عباده, بيده الخير وهو على كل شيْ قدير, هؤلاء القوم تعلقت قلوبهم بالله فحفظهم من
الأشرار, وعصمهم من الأضرار, نعمة من الله وتفضلا ( يا أيها الذين أمنوا اذكروا
نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله
وعلى الله فليتوكل المؤمنون )
* لقد كان الرسل والصالحون هم الأسوة في التعلق
بالله دون غيره, جاء ذلك في كتابه العزيز وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وسطر
التاريخ صوراً من ذلك أيضا. خذوا لذلك مثلاً نبي الله إبراهيم عليه السلام ..لقد
أجمع قوم إبراهيم على قتله انتصاراً لآلهتهم واختاروا له أفضع قتله , لقد وضعوا له
جبالاً من الحطب , جمعوها شهراً ثم أوقدوها فاشتعلت النار واشتدت حتى إن الطائر ليمر
بجانبها فيحترق من شدة وهجها ثم قيدوا إبراهيم عليه السلام ووضعوه في المنجنيق
مغلولاً ليرموه إلى قعر النار, لحظات مرعبة لكنها لا تزيد إبراهيم عليه السلام إلا
إيماناً راسخاً كرسوخ الجبال الرواسي , لقد كانت ثقته بنصر الله وتأييده أقوى من
الأرض ومن عليها , وبعد لحظات يرميه القوم إلى السعير فهل لهج لسانه بالجزع ؟ كلا
, بل قال بكلمات ثابتة :" اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك
لا إله إلا أنت , سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك" ثم رموا إبراهيم
بالمنجنيق إلى قعر النار فجاءه جبريل وهو في الهواء فقال له : ألك حاجة ؟ فقال عليه السلام :" أما
إليك فلا وأما من الله فبلى لقد توكل على
الله وحده فنعم المولى ونعم الوكيل قال الله تعالى ( يا نار كوني برداً وسلاماً
على إبراهيم ) فكان كذلك وعن المنهال بن عمر قال : أُخبرت أن إبراهيم ألقي في
النار فكان فيها إما خمسين أو أربعين يوماً , قال إبراهيم عليه السلام : ما كانت
أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها , وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ
كنت فيها " , تعلق قلبه بالله فعصمه الله , ( قل من ذا الذي يعصمكم من
الله أن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة
ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيرا) وخذوا مثلا آخر , وهو رسولنا محمد
صلى الله عليه وسلم , لقد تعلق قلبه بالله وحده, واعتقد أن الله هو عاصمه وكافيه .
فعن جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا [ بعيداً ] وتفرق الناس في العضاة يستظلون تحتها وعلق
النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة , فجاء إعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأخذه فسله ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من يمنعك مني ؟
فقال عليه الصلاة والسلام :" الله عز وجل " فقال الأعرابي مرتين أو
ثلاثا : من يمنعك مني ؟ فيقول صلى الله عليه وسلم : " الله عز وجل "
فسقط السيف من يده واستسلم بين يدي رسول الله حفظاً من الله لنبيه و(الله يعصمك من
الناس )
* وسطر لنا التأريخ صوراً من تعلق قلوب الصالحين
بالله ليقتدي بها من يقتدي ويهتدي بها من يهتدي, ومن ذلك أن الحَجاج دخل البلاد
وعاث في الأرض الفساد وقتّل العباد, فلما علم الحسن البصري بذلك دعا الله أن يزيل
كيده وأن يكفي المؤمنين شره, وعلم الحَجاج بفعلته فطلبه ليبطش به فجاءه, الحسن
البصري وقد لبس أكفانه وعلم أنه أقبل على الموت ولكن قلبه كان معلقاً بالله فما اعتصم
بالواسطات ولا تعلق بالشفاعات بل مد يديه إلى مالك الملك الذي ينزع الملك ممن يشاء
ويؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء, ويذل من يشاء , رفع الحسن ناظريه وقال :"
اللهم يا حي يا قيوم أسألك أن تقصم الحَجاج وتسخره لي اليوم " ثم دخل إلى مجلس
الحَجاج فابتعد الناس ورفعوا ثيابهم حتى لا تتأذى بدماء الحسن فلما اقترب من الحَجاج
إذا به يخاف من الحسن ويقول : لعلنا أزعجناك وخوفناك, فقال الحسن : نعم فقال : عد
سالما .
لقد
حفظه الله من بين يديه ومن خلفه ( فالله خيراً حافظاً وهو أرحم الراحمين )
لقد اعتصم
بالله فعصمه الله ( ومن يعتصم بالله
فقد هُدي إلى صراطٍ مستقيم ) ثم التفت إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فهو ممن تعلق
قلبه بالله وركن إلى القوي العزيز ذكر المؤرخون أنه دخل على طاغية التتار وذكره
بالله ووعظه بالتي هي أحسن وتكلم بكلام من لا يخاف في الله لومة لائم بل دعا – رحمه الله - عليه , فجمع من حضر
المجلس ثيابهم خوفا أن يُقتل فيُطرطش بدمه عليهم, وما حدث شيءٌ من ذلك , بل خرج من
بين يدي طاغية
التتار مكرماً مُعززاً بحسن نيته وتعلق قلبه بالله .
* وبالضد من ذلك , هناك من تعلق قلبه بغير الله
فوكله الله إلى ذلك الشيْ تعلق به فهلك مع الهالكين, ولهذا صور عديدة أنكرها الله
وقبح أهلها, قال تعالى ( قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر
هل هُنَّ كاشفات ضره )
كم من البشر تتعلق قلوبهم بمن لا ينفعون ولا
يضرون ولا يملكون حياة ولا نشورا , وكم من الخلق ممن تعلقت قلوبهم بخلق مثلهم فما
أغنوا عنهم من شيْ , وخذوا مثلاً لمن يتعلق قلبه بالشيطان – والعياذ بالله – , ذكر
أهل التفسير أن راهباً أغراه الشيطان ففجر بفتاة لها إخوان وليخفي معالم جريمته قتلها
, فجاء الأخوة إليه وقد انكشف أمره , فأنزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان , فقال
إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما
أوقعتك فيه ,فسجد الراهب له وتعلق قلبه به لقد أخذ فقتلوه ولم يغني عنه الشيطان من
شيْ, وهلك وهو مشرك بالله – والعياذ بالله – .قال تعالى في شأنه ( كمثل الشيطان إذ قال
للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريْ منك إني أخاف الله رب العالمين ) .
وهناك من يتعلق قلبه بالسحرة والمشعوذين , يتعلق
قلبه بهم فيطلب منهم الشفاء ويرجو رفع البلاء وهذا شرك مناقض للتوحيد فإن الله هو
المدبر الرازق النافع ( ألا له الخلق والأمر ) .
* ومن صور تعلق القلوب بغير
الله للحصول على منفعة أو لرفع ضرر ما يفعله الناس من لبس حلقة في اليد أو القدم
يزعمون أنهم يحصلون منها على ذلك كله , ومن ذلك ما جاء عن عمران ابن حصين رضي الله
عنه :" أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر أي من نحاس
فلما سأله صلى الله عليه وسلم عنها قال : "من
الواهنة " أي ليدفع عن نفسه الألم والمرض , عند ذلك قال صلى الله عليه وسلم :"
انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا " , ثم قال عليه الصلاة والسلام :" فإنك
لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا " و من ذلك أيضاً ما تفعله كثير من النساء
فتجدهن يضعن قلادة على هيئة عين ملونة يزعمن أنها تحمي من العين الحاسدة, وبعض
النساء تُلبُس أطفالها لباساً أسوداً يزعمن أنه يدفع مس الجن عنهم. وكذا ما يُلبس
من أحجار من حجر البحر أو ما يعلق منها في السيارات , ويسميها العرب " الودعة
" قال صلى الله عليه وسلم : " من تعلق ودعة فلا ودع الله له "
وقال صلى الله عليه وسلم :" من تعلق شيئا وكل إليه " .. فإذا
وكله الله إلى هذا المخلوق من حجر أو شجر ضل وهلك - والعياذ بالله - .
* ومن صور التعلق بغير الله
طلباً للنفع أو دفعاً للضر لبس الخيوط بألوان معينة بقصد طلب المنفعة ومن ذلك ما
ذكره ابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلاً في يده خيط لدفع الحُمى
فقطعه , وأنكر عليه هذا المنكر الشنيع في حق الله تعالى ألم يقل سبحانه : ( قل
من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج
الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون )
*ومن صور
التعلق بغير الله, التعلق بالتمائم, وتسمى العزائم والحُجب, وهذه الأشياء منتشرة
انتشاراً تذهل له العقول , وإنما انتشرت وفشت بسبب متاجرة أهل السحر والشعوذة لها
وجهل الناس بها , وهي عادة جاهلية عرفها العرب من قديم, قال أبو منصور – رحمه الله
– :" التمائم خرزات كان العرب يعلقونها على أولادهم ينفون بها النفس والعين
بزعمهم فأبطله الإسلام " , قال أهل العلم التمائم أنواع كثيرة : فتكون من كعب
الأرنب يعلقونها وتكون من وتر القوس ومن الخشب ومن الأعشاب وقد تكون من الأوراق أو
المعادن والغالب أنها تعلق على الصدر أو العنق فتتعلق القلوب بها ويرتجى منها
النفع ودفع الضر ولقد قال صلى الله عليه وسلم :" إن التمائم شرك
" , جاء في الأثر أن رهطاً أقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايع
تسعة منهم وأمسك عن واحد , فقالوا يا رسول الله : بايعت تسعة وتركت هذا قال : إن
عليه تميمة فأدخل يده فقطعها فبايعه عليه الصلاة والسلام وقال : " من علق
تميمة فقد أشرك " وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رسوله :" أن
لا تُبقين في رقبةِ بعيرٍ قلادةً من وتر أو قلادة إلا قطعت "ولقد تبرأ
النبي صلى الله عليه وسلم ممن يتقلد وتراً في عنقه أو يجعله في عنق دابته " ,
وقد بين العلماء أنها قد تكون شركاً أكبر إذا اعتقد منها النفع أو دفع الضر من دون
الله .
*وتنتشر
هذه الأيام التمائم تحت مسميات كثيرة ينبغي أن نعرفها حتى لانخدع بزخرفة الأسماء
وتنوعها, ومن هذه الأسماء : النفرة وسن الثعلب والعقرة والينجلب والتوله والقرزحة
والدروبيس والكحلة والكرار والهمرة وكذا الحضمة والعطفة والسلوانة والتحويطة .
وقد
تراها على طابع ينقش فيه صورة للعقرب يقولون يحمي ممسكه من لدغة العقرب وقد تراها
نعلة أو حذاء يعلق في مؤخرة السيارة أو في واجهة الدار أو الدكان وكلها شرك تعلق
بها ضعاف الإيمان – عافانا الله وإياكم من الخذلان – , إنه حريٌ بنا أن نفر
بجلودنا من هذه الأعمال الجاهلية, وأن نطهر قلوبنا من التعلق بغير الله .. حقيقٌ
بنا أن نربي الأبناء والبنات منذ نعومة أظفارهم على أن الله هو الحافظ والمانع من
الشرور ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يربي ابن عباس وهو غلام على هذا
المعتقد , يقول له :" يا غلام إني معلمك كلمات احفظ الله يحفظك ,احفظ الله
تجده تجاهك ,إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وأعلم أن الأمة لو
اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيْ قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن
يضروك لم يضروك إلا بشيْ قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف " , هذه
هي التربية النبوية الصحيحة لا كما يفعل كثير من الآباء والأمهات , تجدهم يربون
الأبناء على الخوف من الجن والوحوش أو الشياطين والظلام , فيجعلهم ذلك في فزع وهم في
الوقت نفسه لا يعلمون إلى أين يفرون ؟ وبمن يعتصمون ؟ فينبغي أن نربي أبناءنا على
تعلق قلوبهم بالله وأن هؤلاء جميعاً ليسوا بضارين شيئاً إلا بأذن الله , كما قال
تعالى : ( إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين أمنوا وليس بضارهم شيئاً ألا
بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) فالمؤمنون يكلون أمرهم إلى الله
وتتعلق قلوبهم به دون سواه ويستعيذون بالله من الشيطان الرجيم ومكايده ( قل
أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد *
ومن شر حاسد إذا حسد ) , فإذا فعلوا ذلك كفاهم الله بعزته وقدرته ( أليس
الله بكاف عبده ) بلى وربي . وأما من تعلق قلبه بحجر أو شجر, ووكل أمره إلى
خِرقٍ أو ورق, فإنه هالك لا محالة قال ابن القيم - رحمه الله - :" فمن تعلق شيئا وكله الله إلى ذلك الشيْ
الذي تعلقه فمن تعلق بالله وأنزل حوائجه
به , والتجأ إليه وفوض أمره إليه كفاه ومن تعلق بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله
ودوائه وتمائمه , وكله الله إلى ذلك وخذله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق