لا يخفى
على أحد من أهل الإسلام شأن الفُتيا وأهميتها , ولا تزال الأمة تحتاج إلى من
يفتيها في نوازلها وما جدّ في حياتها .
ولقد كان
الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته يكفي الناس في هذا الأمر فما من نازلة تنزل دقيقة كانت أو جليلة
إلا ويتوجه الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتغون عنده الهُدى والبيان , فيسألونه
ويجيبهم, ويستفتونه فيفتيهم .
ثم جاء
عصر الصحابة رضي الله عنهم, فكانوا أمنة حُفاظاً , حُراساً للشريعة, وكان المسلمون
يقصدوهم لأجل الفتيا والسؤال والتلقي عنهم, وأخذ العلم منهم .ومع ما حباهم الله به
من الفضل والعلم إلا أنهم كانوا يتهيبون الفتوى على الله بغير علم ,ويتحرزون من
ذلك أشد التحرز , فعن عبد الرحمن بن أبى ليلي - وهو من التابعين الثقات
المعروفين - قال : ( لقد أدركت عشرين و مائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن فتيا
إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا ) .وهكذا حال أهل القرون الأولى المباركة من التابعين
وأئمة المسلمين, ثم تطاولت الأيام ومضت السنون وتبدلت الأحوال وانتهى الأمر إلى ما
قاله النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ لَا
يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ
الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ
النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا
وَأَضَلُّوا ) رواه البخاري .
ولا يزال
أمر الأمة في انحدار حتى ظهر الرويبضة التافه يتكلم في أمور العامة واندثر عصر
المفتين وجاء عصر المفتونين وشاع ذلك مع تكاثر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة
والمقروءة.وصدق في حال الفتاوى في هذا الزمان ما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه : ( لا يأتي عليكم عامٌ إلا وهو شرٌ من الذي كان قبله أما إني لست أعني عاماً
أخصب من عام , ولا أميراً خيراً من أمير , ولكن علماؤكم وخياركم يذهبون, ثم لا
تجدون منهم خلفاً ,ويجيء قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويُثلم ) .
إن داء الفتوى على الله بغير علم , داءٌ قديم
تناثرت فيه الأخبار وتواترت, رأى رجلٌ ربيعة بن أبي عبدالرحمن باكياً فقال له : ما
يبكيك؟ فقال: ((أُستفتي من لا علم له , ظهر في الإسلام أمر عظيم )) , قال العلماء
: ( فكيف لو رأى ربيعة زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا وتوثبه عليها, ومد
باع التكلف عليها, وتسلقه بالجهل والجرأة عليها مع قلة الخبرة وسوء السيرة ).
وهؤلاء
الذين يشيعون الفتاوى المزيفة يتسببون في هدم الدين , كما قال عمر رضي الله عنه :
( ثلاث يهدمن الدين : زلة عالم , وجدال منافق بالقرآن , وأئمة مضلون ) .
والمؤمن
التقي أولى الناس بالحذر من الفتيا الجائرة, كيف لا يكون كذلك وهو يقراء قوله جل
وعلا: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب
لا يفلحون} سورة النحل
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئاً مما حرَّم الله، أو حرَّم شيئاً مما أباح
الله بمجرد رأيه وتشهيه.
ولعظيم
خطر الفتوى على الله بغير علم قرنها الله بالشرك الأكبر في التحريم , قال ابن
القيّم - رحمه الله تعالى - : ( وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في
الفتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرمات بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى
( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن
تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) (الأعراف: 33) فرتب
المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو
الإثم والظلم ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه ثم ربع بما هو
أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم
في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه).
* وقد
جاء في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سئل عن سؤال ليس عنده جوابه, قال : ( لا أدري حتى
أسأل جبريل, وكان يُطرق برأسه صلى الله عليه وسلم ينتظر الوحي من السماء, فإذا أُوحي أجاب على
السائل سؤاله .
* وروى أيوب عن ابن أبي
مليكة قال سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن آية فقال: أي أرض تقلني وأي سماء
تظلني وأين أذهب وكيف أصنع إذا أنا قلت في كتاب الله بغير ما أريد الله بها.
*
وقال أبو حصين الأسدي :إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل
بدر!
*
وصح عن ابن مسعود وابن عباس قولهما : من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو
مجنون!!
*
وقال ابن سيرين لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم.
وقال
القاسم من إكرام الرجل نفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه .
*
وقال عبد الرحمن بن مهدي جاء رجل إلى مالك فسأله عن شيء فمكث أياما ما يجيبه فقال
يا أبا عبد الله إني أريد الخروج فأطرق طويلا ورفع رأسه فقال ما شاء الله يا هذا
إني أتكلم فيما أحتسب فيه الخير ولست أحسن مسألتك هذه!!
*
وقال ابن المنكدر: العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم.
*
وقال ابن وهب قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب في المسائل: يا عبد الله ما عملت
فقل وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء.
*
وكان ابن المسيب لا يكاد يفتي إلا قال اللهم سلمني وسلم مني.
*
وقال مالك ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني هل تراني موضعا لذلك؟ سألت
ربيعة وسألت يحيى بن سعيد فأمراني بذلك فقيل له يا أبا عبد الله فلو نهوك قال كنت
أنتهي.
* وقال الإمام مالك - رحمه الله -: من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب
أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصُه، ثم يجيب.
*
وقال القاسم- رحمه الله -: ( والله لأن يُقطع لساني أحبّ علي من أن أتكلم بما لا علم لي به ) .
حتى
لا نقع في الفتوى بغير علم :
1-
يجب علينا أن نحذر ممن يتشدقون بالفقه وليسوا بفقهاء, ويتطاولون على العلم وليسوا
بعلماء, قال ابن سيرين - رحمه الله - : (إن
هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذوا دينكم ).وقال عباد بن عباد الخواص – رحمه الله -
: ( اتقوا الله , فإنكم في زمان رقّ فيه الورع وقل فيه الخشوع, وحمل العلم مفسدوه
فأحبوا أن يعرفوا بحمله, وكرهوا أن يعرفوا بإضاعته, فنطقوا فيه بالهوى لما أدخلوا
فيه من الخطأ,وحرفوا الكلم عما تركوا من الحق إلى ماعملوا به من الباطل ... ) .
2- لا تعرض نفسك للآثام بالفتاوى الجاهلة , قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم :( مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ
إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ ) [رواه أبو داود]
3- حريٌ بنا أن نتذكر دائماً أنه ( وما أُتيتم من
العلم إلا قليلا ), ومتى ما عُرض على الإنسان سؤال فقهي لا يعرف جوابه فليردد ما
قاله من هو أفضل منه ,وليقل: لا أدري , قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( ما أبردها
على كبدي (قالها ثلاثاً ) ,قالوا يا أمير المؤمنين: وما ذاك, قال : أن يسأل الرجل
عما لا يعلم فيقول الله أعلم).وقال ابن مسعود : ( من كان عنده علم فليقل به ومن لم
يكن عنده علم فليقل الله أعلم فإن الله قال لنبيه ( قل ما أسألكم عليه من أجر
وما أنا من المتكلفين) ).
4-
متى ما نزلت بك نازلة حريٌ أن تهرع إلى العلماء الربانيين, تسألهم عن حكم نازلتك ,
هذا ما أمرنا الله به , قال تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
, ولا علاج للجهل إلا بسؤال العلماء.
وخلاصة ما
تقدم ذكره, أنه لا يجوز لأحد يجهل النصوص الشرعية
والأصول الفقهية , أن يخوض فيما لا يعرف أو يتكلم فيما لا يفهم , وهذا التحذير ليس
تحجيراً على الناس, ولا كبتاً لحرياتهم , ولكنه صيانة لحُرمة الشريعة وحماية
لجنابها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق