نرى
في كثير من المواقف والخلافات أن غلبة الخصم على خصمه وأخذ الحق كاملاً غير منقوص
، مما يشجعه أكثر الناس لظنهم أن ذلك من خصال الأقوياء وأن من تنازل عن حقه برضاه
أن ذلك من سمات الأغبياء..فهل يصح أن ما يظنونه أنه خُلق النبلاء؟.
من
تأمل النصوص الشرعية والأخلاق النبوية ونظر في أحوال الفضلاء علم أن الأمر بخلاف
ما يظنه هؤلاء ، فالله تبارك وتعالى مما أمر به نبيه × أن يتخلق بالعفو ما استطاع
إلى ذلك سبيلا ، قال تعالى : ( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم بالأمر)،
ومما أثنى به الله من صفات المتقين أنهم من العافين عن الناس ، قال الله تعالى عن
المتقين : ( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس
والله يحب المحسنين )، بل إن الله تعالى وعد بالمغفرة للذين يعفون عمن أساء
إليهم ، قال عز وجل : ( ..وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله
غفور رحيم ).والمعنى : إن الله يغفر لكم سيئاتكم التي تفعلونها في جنبه إذا
انتم عفوتم عن إخوانكم.
و
الإساءة تكون أشد على النفس إذا كانت من الأزواج والأبناء أو ذوي القربى ومع ذلك
يذكر الله المظلوم بالعفو ويبشره بالمغفرة والرحمة والجزاء من جنس العمل، قال
تعالى ( ياأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن
تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) .
وهكذا
الخدم في البيت لا بد من العفو عن زلاتهم ،كما جاء في حديث ابن عمر قال : جاءه
رجلٌ فقال : ( يا رسول الله ،كم نعفو عن الخادم فصمت ،ثم أعاد إليه فصمت، فلما
كانت الثالثة ،قال : اعفوا عنه في كل يومٍ سبعين مرة ... الحديث ) أخرجه أبو
داود و صححه الشيخ الألباني رحمه الله .
إنه
من حق المظلوم أن يطالب بحقه ولكن العفو أعظم عند الله ، قال تعالى : ( والذين
إذا أصابهم البغي هم ينتصرون * وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على
الله إنه لا يحب الظالمين).
*
وحين تعرف السلف على هذا الخلُق العظيم تجاوزوا المفهوم الجاهلي للثأر ولانتقام
إلى العفو والصفح الجميل ،وضربوا لذلك أروع الأمثلة، ومما سرده المؤرخون في
ذلك :
* خرج ابن
مسعود رضي الله عنه من بيته ووضع النقود في طيةٍ من طيات عمامته وجلس عند بائع
فاشترى منه طعاماً ثم قال بيده هكذا فوجد أن النقود قد سُرِقت فقال ابن مسعود :
لقد جلست وإنها لمعيّ , قالها متعجباً , فتجمع مجموعة من الناس كالعادة لمناصرته
والتفاعل معه وإبداء المشاعر والأحاسيس التي يوافقونه أو التي يواسونه بهذا المصاب
الذي وقع له فجعلوا يدعون على هذا السارق , اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها ,
اللهم افعل به كذا , اللهم افعل به كذا , وجلس كل واحد منهم يدعو, أما ابن مسعود
فقال : اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك لـه فيها, وإن كان حملته جراءةٌ
على الذنب فاجعله آخر ذنوبه.
*
زين العابدين ( علي بن الحسين ) رحمه الله
, من أكابر التابعين كان في مجلسه وعنده أصحابه من العلماء والأشراف والوجهاء
وجميع طبقات المجتمع وكان بينه وبين ابن عمٍ لـه وهو ( حسن بن حسن بن علي بن أبي
طالب ) كان بينهما شيءٌ مما يكون بين الناس ( فحسن بن حسن ) لم يتمالك نفسه , فجاء
يبحث عن زين العابدين فوجده جالساً مع أصحابه في المسجد فجاء إليه وما ترك شيئاً
إلا قاله في حقه من الشتم وقبيح القول, فلما تشفى منه انصرف , لم يرد عليه علي بن
الحسين بل أكمل مجلسه ثم ذهب إلى بيته، فلما كان الليل ذهب زين العابدين إلى بيت (
حسن بن الحسن )،جاء إلى بيته وطرق الباب فلما خرج حسن بن الحسن قال له : يا أخي إن
كنت صادقاً فيما قلت فغفر الله ليّ , وإن كنت أنا كما وصفتني فغفر الله ليّ , وإن
كنت كاذباً فغفر الله لك ( السلام عليكم ) وتركه فهشمت هذه الكلمات العداوة
المستحكمة في نفس حسن بن الحسن ولم يتمالك مشاعره فتحولت مشاعر العداوة والبغض
والكراهية والغضب إلى مشاعر أخرى معاكسة فجعل يتبعه ويجري خلفه وألتزمه من خلفه ,
وجعل يبكي حتى رثي له ثم قال : لا جرم , لا عُدتُ في أمر تكرهه فقال عليّ بن
الحسين : وأنت في حلٍ مما قلت ليّ , في ليلتها .
*
علِم ( ابن القيم ) بموت ابن مخلوف الذي كان يفتي بهدر دم شيخه ابن تيمية فجاء
يهرول إلى شيخ الإسلام ابن تيمية يبشره
بموت ألد أعدائه ، أقبل عليه وقال : ابشر قد مات ابن مخلوف!! فماذا صنع شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله ؟هل سجد سجدة الشكر وقال : الحمد لله الذي خلص
المسلمين من شره ، كلا بل يقول ابن القيم : فنهرني وتنكر لي واسترجع قال : ( إنا
لله وإنا إليه راجعون ) ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال إني لكم مكانه
ولا يكون لكم أمُرَ تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه فسروا به ودعوا له.
من منّا يصنع ذلك ؟ من منّا يذهب إلى خصمه إذا
مات ؟ يذهب إلى أهله وذوية ويعزيهم ويقول لهم : لا تكون لكم حاجة إلا كنت لكم
مكانه ويواسيهم ؟ من منّا يصنع ذلك ، أهل العفو والصفح يصنعون ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق