الجمعة، 15 يوليو 2016

أنسيت أن الله يراك ؟

إن رقابةَ البشر على البشر رقابةٌ قاصرة فيخفى على الناس من أحوال بعضهم البعض الشيء الكثير , فرقابة المخلوقين ضعيفةٌ ينتابها الغفلة والنسيان والنوم ، أما العليم اللطيف الخبير فرقابته كاملةٌ متكاملة (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، الله تبارك وتعالى ينظر إلينا ويعلم بأحوالنا فهو سبحانه وتعالى: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) وقال تعالى واصفاً نفسه : (ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسةٍ إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم يُنبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيءٍ عليم) وقال تعالى :(قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوهُ يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيءٍ قدير) .
وهو – سبحانه وتعالى- يعلم الجهر وما يخفى, ووصفه لقمان عليه السلام لأبنه فقال : (يا بني إنها إن تك مثقال حبةٍ من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير) .فربّنا جلّ وعلا يسمعُ ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في الليلة الظلماء فلا إله إلا هو .. هو السميع البصير
  هو الذي يرى دبيب الذر   في الظلمات فوق صم الصخر
وسامعٌ للجهر والإخفات     بسمعه الواسع للأصوات
وعلمه بما بدا وما خفي     أحاط علماً بالجلي والخفي
تقول عائشة رضي الله عنها: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات", وفي رواية :" تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء" ثم قالت: "جاءت المجادلة –وهي- خولة بنت ثعلبه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم تُكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقوله , إني لأسمع كلام خولة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله عنها : "فما برحت حتى نزل جبريل بقوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمعُ تحاوركما إن الله سميع بصير)
وهذان رجلان من قريش، يجلسان في جوف الليل تحت جدار الكعبة قد هدأت الجفون ونامت العيون , وأرخى الليل سدوله واختلط ظلامه وغارت نجومه، فقاما يخططان لاغتيال رسولنا عليه الصلاة والسلام، استخفوا من الناس ولم يستخفوا من الله، قال عميرٌ لصاحبه صفوان: لولا دينٌ عليَّ قضاء وعيالٌ أخشى عليهم الضيعة، لركبت إلى محمد لأقتله فقال صفوان له: عليَّ دينُّك وعيالك عيالي قال عمير: فاكتم شأني وشأنك لا يعلم به أحد قال صفوان: قد فعلت فسلّ عميرٌ سيفه وذهب إلى المدينة وأناخ بدابته عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل منها فرآه عمر فسارع لإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم فأمر بإحضاره فقال صلى الله عليه وسلم : " ما الذي جاء بك يا عمير؟ قال : جئت لأبني الأسير، فأحسنوا به فقال صلى الله عليه وسلم: " فما بال السيف في عُنقك؟ قال عمير: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئا، فأوحى الله لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما كاده عمير هذا وصاحبه صفوان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل قعدت وصفوان في الحجر في ليلة كذا فقلت كذا وقال كذا وتعهد لك بقضاء دينك وحفظ عيالك فبهت عمير وقالها مدوية: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الحمد لله الذي ساقني لهذا المساق والحمد لله على نعمة الإسلام .
أخي في الله : يا مرتكباً للمعاصي في الخفاء أين الله؟ أنسيت الرقيب؟
يا مرتكباً للمعاصي في جنب الله، ما أنت إلا أحد رجُلين، إن كنت ظننت أن الله لا يراك فقد كفرت بالله، وإن كنت تعلم أنه يراك وأنت تعصيه، فقد جعلت الله سبحانه أهون الناظرين إليك .
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل    خلوت ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل طرفةً         ولا أنما تخفيه عنه يغيب
فيا من غلقت الأبواب ووقعت في الحرمات، يا من عصيت الله في الخلوات , يا من غرقت في الفواحش بعيداً عن المخلوقات، أنسيت الله ؟؟ جاء في الصحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعلمنَّ أقواماً من أمتي يوم القيامة يأتون بحسناتٍ أمثال جبال تهامه بيضاء يجعلها الله هباءً منثورا قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله!! قال صلى الله عليه وسلم : "أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون لكنهم إذا خلو بمحارم الله انتهكوها" .
وإذ خلوت بريبةٍ في ظلمةٍ     والنفس داعيةٌ إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها     إن الذي خلق الظلام يراني
أيها الأخوة : ينادينا ربّنا فيقول :(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحده، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءَ واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا) .فهل واقع الناس يوحي باستشعارهم لرقابة الله , أم بغفلتهم عنها ,أُنظر إلى ذاك التاجر تجده يتعامل بالربا ويأكل الحرام بصفقات محرمة، لماذا يفعل هذا؟ لأنه نسي (إن الله كان عليكم رقيبا) .
أُنظر إلى ذاك الموظف تجده يتكاسل عن عمله ويلفق ويرقع وقد يأخذ الرشاوي وقد يستغل هذه الوظيفة في مصالح أقاربه وأصحابه دون غيرهم، لماذا يفعل هذا؟ لأنه نسي (إن الله كان عليكم رقيبا) .
أُنظر إلى أولئك الآباء، تجد أحدهم يرفع رآية الدشوش فوق بيته وتغزو القنوات الفضائية الأهل والأولاد والبنات أو يحضر لهم الأفلام الماجنة والأغاني الخليعة لماذا يفعل هذا؟ لانه نسي (إن الله كان عليكم رقيبا) .
أُنظر إلى تلك المرأة التي تتبرج وتخرج إلى الأسواق تجدها سافرةً متعطرة تتسكع بين البائعين في المحلات وتعرض مفاتنها للغادين والرائحين , لماذا تفعل هذا؟ لأنها نسيت (إن الله كان عليكم رقيبا) .
أولئك الشباب الذين تستروا بأستار الخيام أو بجدران الغرف في حالك الظلام ثم عاشوا ساعات في فواحش ومعاصي تستحي من فعلها الأنعام والهوام لماذا غرقوا في ذلك ؟ لأنهم نسوا (إن الله كان عليكم رقيبا) .
كم من مُغترٍ بشبابه، وملك الموت عند بابه، كم من مُغترٍ عن أمره، منتظرٍ فراغ شهره وقد آنى انصرام عمره، كم من غارقٍ في لهوه وأُنسه، وما شعر أنه قد دنى غروب شمسه .
أيها الأخوة :
وفي حديث جبريل عليه السلام: أنه "سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان؟ فقال له عليه الصلاة والسلام : أن تعبد الله كأنك تراهُ ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" فلا يكون العبد محسناً إلا بعبادة الله وكأنه يطلعُ عليه وهو سبحانه مطلعُ عليه ولا ريب قال ابن القيم رحمه الله: "المراقبة هي دوام علم العبد، وتيقنه بإطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه" .
وقال ابن رجب رحمه الله: "الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته فكان جزاءُ ذلك النظر إلى وجه الله عِيانا في الآخرة " كما قال الله تعالى: (للذين أحسنوا الحُسنى وزيادة) , وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرُ الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى في الجنة , كما أن لهم مغفرة وأجر كبير قال تعالى : (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة واجر كبير، وأسروا قولكم أو أجهروا به إنه عليمٌ بذات الصدور) .
أيها الأخوة في الله :
لقد استشعر السلف الصالح رقابة الله لهم في سرهم وعلانيتهم وقد ذكر لنا التاريخ مواقف خالدة تبين ذلك وتؤكده .فكانوا رحمهم الله يستشعرون رقابة الله لأبصارهم فيغضوا من هذه الأبصار ويجعلوها في ما أباح الله لهم، رُوي عن حسان بن أبي سنان رحمه الله : أنه خرج في يوم عيدٍ، فلما عاد قالت له زوجته: كم من امرأةٍ حسناء قد رأيت؟ فقال: والله ما نظرت مُنذ خرجت من عندك إلا في إبهامي إلى أن رجعت إليك. وكان الربيع بن خيثم من شدة غضه لبصره وإطراقه برأسه تظن النساء أنه أعمى فأين هؤلاء من الذين يذهبون بأقدامهم إلى أماكن العائلات لينظروا إلى عورات المسلمين ونسائهم، فياعجباً لهؤلاء الشباب , أتفرون من رجال الأمن ورجال الهيئات وتخشون رقابتهم وتنسون أن الله كان عليكم رقيبا، أتخافون من عقاب الدولة ولا تخافون من عقاب رب الأرض والسموات.
فيا عجباً كيف يُعصى الإله     أم كيف يجحده الجاحدُ
ثم أُنظروا إلى الأخيار الأبرار وهم يستشعرون رقابة الله في أسماعهم فلا يسمعون ما حرم الله من غِناء وغيبةٍ ونميمة , بل حالهم كما وصفهم الله  فإذا مروا باللغو مروا كراما وإذا ذُكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صُماً وعميانا .
يقول الإمام البخاري: "ما اغتبت أحداً قط منذ علمتُ أن الغيبة حرام" قال الذهبي رحمه الله "صدق (البخاري) رحمه الله ومن نظر في كلامه، علم ورعه في الكلام في الناس" ومن قبله ابن مسعود رضي الله عنه كان يخاطب لسانه ويقول : " يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم" .
فأين هؤلاء من الذين يجلسون يتفكهون ويتلذذون بأكل لحوم الناس , ياهؤلاء , إن الذين تغتابونهم لا يسمعونكم قطعاً, ولكن الله يسمعكم ويعلم ما تخفى صدوركم كما قال تعالى : (واسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور)
أيها الأخوة في الله :
إنكم ترون كثيراً من السائقين من يكونوا مسرعين بسياراتهم بسرعةٍ جنونية حتى إذا أقبلوا على لوحةٍ قد خُط فيها إن الطريق مراقبٌ بالرادار رأيتهم قد اعتدلوا في سيرهم وانضبطوا في ممشاهم وإن تعجب فأعجب من حال هؤلاء، إنهم يسيرون في هذه الحياة بأيامٍ تُسرعُ بهم إلى انقطاع أجلهم وحضور موتهم والله رقيبٌ عليهم يحصي حركاتهم وسكناتهم كما قال تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلمُ ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) .
إننا لو استشعرنا رقابة الله في ليلنا ونهارنا لكان هذا مانعاً لنا عن أفعال محرمة عديدة , فذاك الذي يُظهر الإحسان في وظيفته وعمله حتى إذا غاب الرقيب انكشف إهماله وبان عواره , لو كان يستشعر رقابة الله له لما كانت هذه أفعاله .
أولئك الغششة الذين يحتالون على الناس، فيغشون في البناء أو يغشون في مطاعم الناس ومشاربهم، أما لو كانوا يستشعرون رقابة الله لهم لما كان منهم ذلك وهم يعلمون أنه من غشنا فليس منها.

في إحدى الليالي وبينما عمر الفاروق رضي الله عنه يعسُّ في الليل أصابه التعب فأسند ظهره إلى جدار فإذا به يسمعُ امرأة تقول لأبنتها: "يا فلانة ضعِ مع اللبن الماء ليكثر عند البيع، فقالت البنت: "يا أماه إن عمر أمير المؤمنين قد أمر مناديه أن ينادي "لا يُشابُ اللبن بالماء" فقالت الأم: "يا بنتي إنك في موضعٍ لا يراك فيه عمر ولا مناديه" فقالت تلك الفتاة وقد استشعرت رقابةَ الله في قلبها: يا أماه أين الله؟والله ما كنت لأطيعه في الملء وأعصيه في الخلوة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق