الجمعة، 15 يوليو 2016

ديننا إتباعٌ لا ابتداع

 يصف لنا الصحابي الجليل ابن مسعودٍ رضي الله عنه تلك الجلسة الكريمة فيقول : " خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً فقال: هذا سبيلُ الله، ثم خطَّ عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطوطاً فقال: هذه سُبل ، على كل سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليها ثم تلا عليهم قول الله عز وجل (وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوهُ ولا تتبعوا السُّبل فتفرق بكم عن سبيله ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون) ".
*في هذه الجلسة يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من أمرٍ عظيم وخطبٍ جليل فيقررُ عليه الصلاة والسلام أن الإسلام هو صراطُ الله المستقيم وأنه لا سبيل إلى جنات النعيم إلا بهذا الدين القويم (وأن هذا صراطي مُستقيماً فاتبعوه) ثم يأمر عليه الصلاة والسلام بآيات الله أن نجتنب سُبل الشيطان المتعددة المعوجة (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) .
إذاً من صفات صراط الله ومن مميزاته أنه سبيل كامل لا نقص فيه كما قال الله عز وجل (اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا) ومما تفرد به هذا السبيل أن الله لا يقبل سواه كما قال عز وجل في محكم كتابه (ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) , ولهذا ولذاك كان من الكفر بالنعمة ومن التشويه لجمال هذا الدين أن يُدنس هذا الإسلام بجهالات الجاهلين وبدع المبتدعين مهما كان نوعها ومهما كان الباعث لها، إن البدعة في الدين نُكُتةٌ سوداءٌ في صفحات الشريعة الغراء ، ولذلك نهانا عليه الصلاة والسلام عن تتبع السبل الشيطانية، قال أهل العلم : "وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر الملل والبدع والضلالات والأهواء" .
*وحتى نعلم قدر هذا الأمر عند الله دعونا نتأمل في قوله سبحانه وتعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) فالله سبحانه وتعالى يتبرأ ممن فارق دينه وخالفه لأن الله عز وجل أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وشرعه واحدٌ لا اختلاف فيه ولا افتراق , فالذين اختلفوا فيه وكانوا شيعاً أي فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات تبرأ منهم سبحانه وتعالى وذمهم وتوعدهم فويلٌ لهم من عذاب الله ونقمته (إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) وهذه البدع التي يفعلها بعض الناس على ما فيها من إثم ومعصية وعلى ما فيها من مخالفة وزيغ فإنها أيضاً مردودةٌ على صاحبها، ولو ألبسها لباس الدين أو ترنم فيها بالآيات والأذكار , ودليل ذلك ما قاله عليه الصلاة والسلام: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" قال العلامة ابن دقيق العيد عند شرحه لهذا الحديث النبوي , قال –رحمه الله- : " هذا الحديث صريحٌ في رد كلِّ بدعة وكلَّ مخترع (يعني في الدين)" .
فالمبتدعةُ مردودةٌ أعمالهم لا يقبلها الله لمخالفتهم شريعة الله بزيادةٍ في العبادات أو بنقص منها , بل عليهم من الوزر ما كسبت أيديهم ويحملون يوم القيامة أوزارا من تمسك ببدعتهم أو دعا إليها .
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقصُ ذلك من آثامهم شيئاً"رواه مسلم .
*وبعد هذه السهام القاصمة على البدع والمبتدعة وبعد هذه التوجيهات الربانية والتحذيرات النبوية انطلق الصحابة يعيشون في حياتهم متمسكين بدينهم متبعين للإسلام في كبير الأمور وصغيرها , ولذلك قال الله عنهم : (إنما كان قول المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) , بل بلغ بالصحابة والتابعين –رحمهم الله- أنهم جاهدوا بالسِنان واللسان ليتبع الناسُ الصراط المستقيم فمن رأوا في قلبه مرضاً أو زيغاً سارعوا إليه فأقاموا عليه الحُجّة فإن تاب وأناب و إلا قاطعوه وطردوه لأنه مبتدعٌ في دين الله ، فهذا ابن عباس رضي الله عنه يجادل الخوارج بالحق حتى رجع منهم ألفان أو ثلاثة , حاورهم وجادلهم وأعلن لهم أن الدين إتباعٌ وليس بابتداع .
وهذا عمر رضي الله عنه عَلِمَ بمبتدع يصول ويجول بين المسلمين فأمر به فأُحضر فضربه مرتين ثم أراد أن يضربه الثالثة فقال ذاك المبتدع: يا أمير المؤمنين أن كنت تريدُ قتلي فاقتلني قتلاً جميلا وإن كنت تريد أن تداويني (أي من البدع) فقد والله برئت , فتركه عمر رضي الله عنه وأمر بألا يجالسه أحدٌ حتى ينفك عن بدعه وضلاله , وحتى يعلم أن الدين إتباعٌ وليس ابتداع وكان الإمام الشافعي –رحمه الله- يحكمُ على الذين يبتدعون من أهل الكلام بأن يُضربوا بالجرائد ويحملوا على الإبل ويُطاف بهم في العشائر والقبائل ويقالُ : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام (يريد بذلك أهل البدع)، بل كان يُشهر بهم ويوصي بضربهم بعسف النخل حتى يعلموا أن الدين إتباعٌ وليس بابتداع , ولخطورة هذا الأمر نفرت طائفةٌ من أهل العلم للرد على أهل البدع وكشف زيغهم وضلالهم , ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فقد جرد سيفه وقلمه لكشف شبهاتهم وكان يقول : "الرادُ على أهل البدع مجاهد" , ومنهم المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب فقد حارب البدع في هذه الجزيرة بلسانه وسِنانه –رحمه الله رحمة واسعة-  ,وكان يحيى بن يحيى- رحمه الله- يقول:" الذب عن السنة أفضل من الجهاد .
وكان محمد بن سهل البخاري رحمه الله يقول: " كلامي في أهل البدع أحب إلىَّ من عبادة ستين سنة ".
 يقول الله عز وجل (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) .
فمن أدعى محبة الله فلابد أن يتبع شرعهُ الذي جاء به رسوله عليه الصلاة والسلام , أما جزاءُ الإتباع والتمسك بالكتاب والسنة فهو الهُدى والسعادة في الدنيا والآخرة ، يقول الله عز وجل في محكم كتابه : (فمن اتبع هُداي فلا يضل ولا يشقى) وأما من أعرض عن الإتباع إلى الابتداع وتتبع الأهواء فليبشر بالضنك والشقاء يقول الله عز وجل : (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يومٌ القيامة أعمى) . وبعد هذا نُدرك أن الأمر كما قال تعالى : (وأن هذا صراطي مُستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذالكم وصاكم به لعلكم تتقون) .
*وبعد ما ذكرنا من نصوص ربانية وتحذيرات نبوية عن الابتداع في دين الله وبعد ما تبين لنا خطورة هذا الأمر وعاقبتهُ , وعلمنا أن خاتمة البدع ولو كان ظاهرها العمل الصالح فإنها مردودة على وجه صاحبها بل يأثم هو ومن سار على خُطاه ويحمل أوزارهم إلى وزره , فمن سن في الإسلام سنة سيئة فإن عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام ، ومع هذه العواقب المتلاطمة والفتن المتلاحمة التي تحصل من البدع والضلالات، إلا أن البدع مازالت تنتشر في المجتمعات المسلمة، وإنك ما قلبت ناظريك في أمرٍ من أمور الشرع إلا وتجد البدع تحوم من حوله، فالبدع اكتسحت عقيدةَ المسلمين في كثيرٍ من بلاد الإسلام ولذلك صور عديدة منها الذبح عند قبور الصالحين و التوسل بالأموات , ومنها الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ومنها ذكر الله بطرقٍ بدعية ما شرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , وإذا جئت تنظرُ إلى الطهارة وجدت البدع في التلفظ بالنية عند كل وضوء وفي تخصيص ذكرٍ عند غسل كلِّ عضو وإذا تأملت الصلاة فحدث عن البدع فيها ولا حرج , فكم من الناس من يتلفظ بالنية عند كلِّ صلاة ويشير بيديه عند السلام كذيل الفرس أو يدعو بأذكارٍ من صنيعه ما أنزل الله بها من سلطان أو تجد من يخصص ليلة الجمعة بصلاة ليل عن بقية الليالي، وهكذا الصيام فتجد من الناس من يُخصص ليلة السابع والعشرين من رجب بصيامٍ أو عمرة ويسمونها العُمرةٌ الرجبية.
بل حدّث من ذهب مصادفةً لأخذ عُمرةٍ في شهر رجب من عام مضى أنه رأى أفواجاً من الناس يُطلق عليهم "الرجبية" قد ابتدعوا في دين الله ماليس منه فخصصوا عبادات وصلوات لشهر رجب دون غيره ومن تأمل واقع  بعض المجتمعات المسلمة وقد غرقوا بالبدع فإنه يكاد أن يتفطر قلبه وتنهمر الدموع من عينيه من كثرة البدع وانتشارها ومن تلكم البدع بدعة الاحتفال بمناسبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم وبدعة الاحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج في رجب أو بدعة الاحتفال بمناسبة الهجرة النبوية في محرم . ونحن في هذا المجتمع ما كنا لنعلم بهذه البدع إلا بعد غزو القنوات العربية لنا ولأُسرنا وكذلك المجلات والجرائد الوافدة فقد ساهمت في نشر هذه البدع وذلك من خلال عقد اللقاءات الصحفية مع المبتدعة وتسيلطُ الاضواء عليهم وكأنما هم أبطال الأمة وكأنما أسوة المجتمع المسلم وقدوته أولئك المبتدعة، بل ويقوم بعضُ التجار الجهلة بصرف الأموال الطائلة من أجل طباعة وتوزيع كُتب المبتدعة ومنشوراتهم ويظنون أنهم يُحسنون صنعاً ألا بئس ما يفعلون .
إن من الناس من يحاول التغيير والتبديل فلا يرتضي المشروع ويخطو إلى الممنوع , تراه لا يرتضى الإتباع بل ينجر ويجري إلى ابتداع ثم ابتداع , وهؤلاء قد حذرنا منهم رسولنا صلى الله عليه وسلم حينما قال: "من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل مُحدثةٍ بدعة" إن البدع تقضي على السُنن وتغيرُ الدين، وقد جاء عن حسان بن عطيه رحمه الله أنه قال: "ما ابتدع قومٌ بدعةً في دينهم إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها" وقد شدّد النبي صلى الله عليه وسلم النكير على من أحدث البدع، لا لشيء إلا لأن البدع توجب لمن ارتكبها فساداً في دينه وقلبه ولهذا تجدون الذين يعملون البدع ويحيونها من أبعد الناس عن الشريعة والسنن .
قال أهل العلم: "ومن مفاسد البدع أنها تجعل المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وتحملُ أصحابها على الاستكبار عن الحق عندما يُدعون إليه، ثم إن البدع تشتت شمل المسلمين، لأن كلَّ فريق من المُبتدعة يبتكرُ طريقةً يرى أنها أحسن من بدعة الفريق الآخر فيصبح كلُّ فريقٍ بما لديهم فرحون فهؤلاء على الطريقة الشاذلية وهؤلاء على الطريقة الأحمدية وهؤلاء على الطريقة القادرية وكلٌ له طريقته وكلٌ له عمله , ولكن العاقبة كما قال تعالى : (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا) .
ومن مفاسد البدع اتهامُ الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه خان الرسالة ولم يؤد الأمانة قال مالكٌ بن انس رحمه الله : "من أحدث في الدين ماليس منه فقد زعم أن محمداً خان الرسالة" فإن الله تعالى يقول (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق